فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10]، وكقوله: [البسيط]
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا ** أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ

وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ} [الأعراف: 185]، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ الله} [النور: 9] في قراءة نافعٍ.
ومَنْ نصب «تَكُونَ» ف «أن» عنده هي الناصبة للمضارعِ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ بـ «لاَ»، و«لاَ» لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ، ولا جازم، ولا جارٍّ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 73] {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40]، والجارُّ نحو: «جِئْتُ بِلا زادٍ».
و«حَسِبَ» هنا على بابها من الظَّنِّ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ، وهو نصٌّ فيه كقوله: [البسيط]
نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ** ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ

وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ بـ «أن»، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2]، وأمَّا قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ.
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شكٍّ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ: إنْ جعلناه يقينًا، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها، وإن جعلناه شكًّا جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] وقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ، ولا في الثانية إلا بالنصْب، لأن القراءة سنةٌ متبعة، وهذا تحريرُ العبارة فيها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن، ولهذا قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلْتَ: كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على «أن» التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ: نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ» والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين، والناصبةِ بعد غيره، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ: ما ذكروه، وهو «أن» المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة، والعلمُ وبابُه كذلك، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} [البقرة: 107] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82] {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} [المجادلة: 13] إلى غير ذلك، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ، وعلى كلا التقديرين، أعني: كونها المخففةَ أو الناصبةَ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين، ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائنًا أو حاصلًا، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ «أن» من «لاَ» في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى، ومن نصب، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما، قال أبو عبد الله: «هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ، أمَّا المُصْحَفُ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال».
انتهى، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ «أنلا» فتوصل «أن» بـ «لاَ» في الخطِّ، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة.
قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} في هذا التركيب خمسة أوجه:
أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل، كـ «قَامَتْ هِنْدٌ»، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضًا، فيقال: «قَامَا أخَواكَ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ»؛ كقوله: [الطويل]
-.......... ** وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ

وقوله: [الطويل]
ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ ** بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ

واستدلَّ بعضُهم بقوله عليه السلام: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ»، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ «أكَلُونِي البَرَاغِيثُ»، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ.
الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو {حَسِبُوا}، و{كَثِيرٌ} بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: «إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ» ونحوه.
والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
وقال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضًا، و{كَثِيرٌ} بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله: أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ، وأمَّا في هذا الوجه، فهو مفسَّرٌ بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ، وهي مسألةُ خلافٍ، وقد تقدَّم تحريرها.
الوجه الرابع: أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و{كَثِيرٌ} خبر مبتدأ محذوف، وقدَّره مكي تقديرين: أحدهما: قال: «تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم»، والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ}، فعلى تقديره الأوَّل: يكون {كَثِيرٌ} صادقًا عليهم و{مِنْهُمْ} صفة لـ {كَثِير}؛ وعلى التقدير الثاني: يكون {كَثِيرٌ} صادقًا على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ، و{مِنْهُمْ} صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال: «أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم».
الوجه الخامس: أنَّ {كَثيرٌ} مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ، ولا يُقالُ: إنَّ الفعلَ متى وقع خبرًا، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستترًا؛ نحو: «زَيْدٌ قَامَ»؛ لأنه لو قُدِّم، فقيل: «قَامَ زَيْدٌ»، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ: وهذا أيضًا يُلْبِس بالفاعلِ في لغة «أكَلُونِي البَراغيثُ»، فالجواب: أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال: «لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعًا لو كان مجرَّدًا من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضًا قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3].
والجمهورُ على {عَمُوا وصَمُّوا} بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا»، قال الزمخشريُّ: «على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي: رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ»، ولم يعترضْ عليه أبو حيان- رحمه الله-، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة: «جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال: عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال».
انتهى، فقوله: «كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ» يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير: «عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ» فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّيًا، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحًا، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسدًا أو بالعكس.
وقرأ ابن أبي عَبْلة {كَثِيرًا} نصبًا؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي: «ولو نَصَبْتَ «كَثِيرًا» في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتًا لمصدر محذوف، أي: عَمى وصَمَمًا كثيرًا»، قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها.
وقوله: {فَعَمُوا} عطفَه بالفاء، وقوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عطفه بـ {ثُمَّ}، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}، وعطف قوله: {ثُمَّ عَمُوا} بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (72):

قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر تعالى بفساد أعمالهم، دل على ذلك بقوله مستفتحًا مبينًا من حال النصارى ما بين من حال اليهود، ومؤكدًا لختم آية التبليغ بما ينقض دعواهم في البنوة والمحبة: {لقد كفر} أي ستر ما دل عليه النقل وهدى إليه العقل {الذين قالوا إن الله} أي على ما له من نعوت الجلال والجمال {هو المسيح} فبين بصيغة فعيل- التي لا مانع من أن تكون للمفعول- بُعْدَه عما ادعوه فيه، ثم أوضح ذلك بقوله: {ابن مريم} إيضاحًا لا خفاء معه.
ولما كانت دعوى الاتحاد الذي هو قول اليعقوبية أشد في الكفر وأنفى للإله من دعوى التثليث الذي هو قول النسطورية والملكية القائلين بالأقانيم، قدمها وبين تعالى أنهم خالفوا فيها أمر المسيح الذي ادعوا أنه الإله فقال: {وقال} أي قالوا هذا الذي كفروا به والحال أنه قال لهم {المسيح} ضغطه عليهم ودعاء إلى ما هو الحق {يا بني إسرائيل} أي الذي كان يتشرف بعبادة الله وتسميته بأنه عبده {اعبدوا الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره، فأمرهم بأداء الحق لأهله مذكرًا لهم بعظمته، ثم ذكرهم بإحسانه وأنه وإياهم في ذلك شرع واحد، فقال مقدمًا لما يتعلق به لأنه أهم لإنكارهم له {ربي وربكم} فلم يطيعوا الإله الحق ولا الذي ادعوه إلهًا، فلا أضل منهم ولا أسفه، قال أبو حيان في النهر: وهذا الذي ذكره الله تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به، وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية- وفي رواية: يا معشر الشعوب- قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلى إلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم- انتهى.
وقد أسلفت أنا في آل عمران وغيرها عن الإنجيل كثيرًا من شواهد ذلك، ويأتي في هذه السورة وغيرها كثير منه.
ولما أمرهم بما يفهم منه الإخلاص لله تعالى في العبادة لما ذكر من جلاله وأن ما سواه مربوب، ولأنه أغنى الأغنياء، فمن أشرك به شيئًا لم يعتد له بعبادة، علل ذلك بقوله: {إنه من يشرك} أي الآن أو بعد الآن في زمن من الأزمان {بالله} أي الذي تفرد بالجلال في عبادة أو فيما هو مختص به من صفة أو فعل {فقد حرم الله} أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {عليه الجنة} أي منعه من دخولها منعًا عظيمًا متحتمًا.
ولما كان المنع من دار السعداء مفهمًا لكونه في دار الأشقياء، صرح به فقال: {ومأواه} أي محل سكناه {النار} ولما جرت عادة الدنيا بأن من نزل به ضيم يسعى في الخلاص منه بأنصاره وأعوانه، نفى ذلك سبحانه مظهرًا للوصف المقتضي لشقائهم تعليلًا وتعميمًا فقال: {وما للظالمين} أي لهم لظلمهم {من أنصار} لا بفداء ولا بشفاعة ولا مقاهرة بمجاهرة ولا مساترة، لأن من وضع عمله في غير موضعه فكان ماشيًا في الظلام، لا تمكنه أصلًا مقاومة من هو في أتم ضياء، وهذا على التهديد على الكفر فلا يصح أن يكون على مطلق المعصية ولو كانت كبيرة، فبطل قول المعتزلة. اهـ.